قال تعالى:
) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ
الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً( طه:108
تفسير الآية :
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ} وذلك حين يبعثون من قبورهم،
ويقومون منها، يدعوهم الداعي إلى الحضور
والاجتماع للموقف، فيتبعون مهطعين إليه،
لا يلتفتون عنه، ولا يعرجون يمنة ولا يسرة.
وقوله: {لاَ عِوَجَ لَهُ} أي: لا عوج لدعوة
الداعي بل تكون دعوته حقاً وصدقاً،
لجميع الخلق، يسمعهم جميعهم، ويصيح لهم أجمعين،
فيحضرون لموقف القيامة، خاشعة أصواتهم للرحمٰن.
{فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ} أي: إلا وطء الأقدام،
أو المخافتة سراً بتحريك الشفتين فقط،
يملكهم الخشوع والسكوت، والإنصات،
انتظاراً لحكم الرحمٰن فيهم، وتعنو وجوههم أي:
تذل وتخضع، فترى في ذلك الموقف العظيم،
الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والأحرار والأرقاء،
والملوك والسوقة، ساكتين منصتين، خاشعة أبصارهم،
خاضعة رقابهم، جاثين على ركبهم، عانية وجوههم،
لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به، ولا ماذا يفعل به،
قد اشتغل كُلٌّ بنفسه وشأنه، عن أبيه وأخيه،
وصديقه وحبيبه {لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ،
يحكم فيه الحاكم العدل الديان، ويجازي المحسن بإحسانه،
والمسيء بالحرمان.
والأمل بالرب الكريم، الرحمٰن الرحيم،
أن يرى الخلائق منه، من الفضل والإحسان،
والعفو والصفح والغفران، ما لا تعبر عنه الألسنة،
ولا تتصوره الأفكار.
ويتطلع لرحمته إذ ذاك، جميع الخلق لما يشاهدونه
فيختص المؤمنون به وبرسله، بالرحمة، فإن قيل:
من أين لكم هذا الأمل؟ وإن شئت قلت:
من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟
قلنا: لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه،
ومن سعة جوده، الذي عم جميع البرايا،
ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا،
من النعم المتواترة في هذه الدار،
وخصوصاً في فضل القيامة، فإن قوله: {وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ}
، {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ} مع قوله:
{المُلْك يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ} مع قوله r:
«إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة،
بها يتراحمون ويتعاطفون، حتى إن البهيمة
ترفع حافرها عن ولدها، خشية أن تطأه،
من الرحمة المودعة في قلبها، فإذا كان يوم القيامة
ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، فرحم بها العباد».
مع قوله r : «لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها»،
فقل ما شئت عن رحمته، فإنها فوق ما تقول،
وتصور فوق ما شئت، فإنها فوق ذلك،
فسبحان من رحم في عدله وعقوبته،
كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته.
وتعالى من وسعت رحمته كل شيء،
وعم كرمه كل حي وجَلَّ من غَنِيَ عن عباده،
رحيم بهم، وهم مفتقرون إليه على الدوام،
في جميع أحوالهم، فلا غنى لهم عنه، طرفة عين.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي
إرسال تعليق